
العودة إلى الذات: قصتي مع ابنتي
بقلم : أفنان السريحي
تجاوزتُ الستين من عمري، وظهري مثقل بندوبٍ لا تُمحى. رزقني الله خمسة أبناء، من بينهم ابنة... لطالما تجنبتها، وألمتها أكثر مما آذاني الزمن. لم أرغب برؤيتها، والسبب؟ رفضي لزوجها. لم أرغب في زواجه من ابنتي منذ البداية، ورغم أنني لم أرَ منه سوءًا، إلا أنني لم أكن أراه زوجًا مناسبًا لابنتي. لكن النصيب غلبني، وتزوجا.
حينها، قسوت عليها قسوة لا تشبه الأبوة، هجرتها وتجنبتها. سنواتٌ طويلة لم أزرها، وعندما كانت تأتي لزيارتنا، كنت أُقابلها بجفاءٍ يذبح. طويت قلبي على عناد.
بعد سنوات، تزوّج جميع أبنائي، وأصبح لكلٍّ منهم حياته الخاصة. رُزقت ابنتي هذه بمولود، وذهب الجميع لتهنئتها، إلا أنا. لم أذهب، ولم أرغب برؤية زوجها.
ومع مرور الوقت، أقعدني المرض، وأصبح جسدي حبيس الفراش، وقلبي أسير العزلة. كانت ابنتي تأتي كل جمعة لتنظيف المنزل، وتسألني إن كنت بحاجة إلى شيء، لكنني كنت أشيح بنظري عنها، وأرد بالصمت.
كتبت وصيتي، وأقصيتها منها. لم أترك لها شيئًا، وكأنها لم تكن يومًا قطعة من قلبي.
وذات يوم، أخبرتها:
"لن أغير وصيتي، ولن ترثي شيئًا. اهتمامك لن يثنيني عن قراري."
أمسكت بيدي وقبّلتها، وقالت:
"لم آتِ من أجل ذلك. أنا آتي من أجلك فقط. لا تقلق، لن أرث شيئًا، وأنا راضية بذلك. يكفيني أنك بخير، يا أبي."
صمتّ، وكأن كلماتها اخترقت كل طبقات قسوتي.
كنت أنظر إليها خفية، وأراها قطعة مني. كيف لم تملّ؟ كيف تعتني بي رغم تقصيري الرهيب في حقها؟ سنواتٌ لم أزرها، لم أتصل بها، وحين كتبت وصيتي استثنيتها من حقها في ميراثي ، ومع ذلك، ما زالت تهتم بي.
وذات جمعة، افتقدتها. استغربت غيابها. كانت الوحيدة من أبنائي التي لا تغيب عني أكثر من أسبوع، الوحيدة التي لا تدع جمعة تمر دون زيارتي. لكن هذه المرة، لم تأتِ، ولم تسألني بابتسامتها المعتادة عن حالي. سألت ابنتي الأخرى التي أتت بدلًا منها:
"لمَ لم تأتِ أختك؟"
أجابت: "لا أعلم يا أبي."
طلبت منها باهتمام أن تتصل بها، ورفعت السماعة.
حينما سمعت صوت ابنتي على الهاتف لأول مرة منذ سنوات، أحسست بأن قلبي يتمزق حزنًا عليها. سألتها أختها:
"لمَ لم تأتِ؟"
فردّت قائلة: "لا أملك أجرة الطريق. لا تخبري أبي، سأحاول تدبير المبلغ لغد، وأحضر. كما أن ابني مريض، ولا أحد يرعاه. سأبقى معه اليوم، وأتدبّر أمري للغد. قولي لأبي إنني أشتاق إليه."
حينها فقط، أدركت حجم جرحي لها، وكم ظلمتها... وأنا ما زلت على قيد الحياة! يمكنني أن أُصلح خطئي ، وهذا ما فكرت به.
طلبت من أبنائي جميعًا أن نذهب لزيارتها. أمرتهم بشراء كل ما تحتاجه لمطبخها وبيتها وطفلها. أردت أن أعتذر، بصمتِ المحبة.
وصلتُ، فرأيت ألمًا يسكن الجدران. بيت بسيط، بالكاد يحتوي على أثاث. تفاجأت بنا ابنتي، واستقبلتنا بدهشةٍ تكاد لا تصدق وجودي. احتضنتها، معوّضًا قسوة السنين، فبادلتني الحضن ببكاءٍ غير مصدّقة أنني أتيت لزيارتها. بكت، وبكيتُ أنا بصمت الندم.
تقدّم زوجها ليسلم علينا، ثم خرج مسرعًا ليأتي بشيء يُضيفنا به. وعند مغادرتنا، أصرّ على بقائنا، وألحّ علينا بالبقاء. وقبيل رحيلنا، قبّل يدي كأنني والده، وقال:
"لقد شرفتنا يا عمي، نحن نحبك كثيرًا. البيت بيتك، يمكنك زيارتنا في أي وقت."
أحببت ذلك الرجل الذي لطالما حكمت عليه بأنه لا يناسب ابنتي. ظلمته، وظلمتها معه. وها أنا أجد فيه رجلًا عزيز النفس، كريم الخُلق.
أحمد الله أنني تداركت خطئي. أغرقت ابنتي بعطفي ومالي، محاولاً تعويضها عن سنوات الجفاء والتقصير ،طالبًا من الله أن يسامحني على حماقتي، وأن يمنحني من العمر ما يكفي لأعوّض من ظلمتُها بقسوةٍ لم تكن تشبهني.