...
لتسجيل إعجابك!!! يرجى تأكيد التسجيل من خلال اللإيميل تأكيد الحساب
لتسجيل إعجابك!!! يرجى تسجيل حسابك معنا إنشاء حساب
من الرماد إلى النور

من الرماد إلى النور

 

في زحمة الخراب والفوضى التي خلفها النزوح، حملت خولة على عاتقها ثقلًا يفوق حجمها. لم تكن تحمل أمتعتها القليلة فقط، بل حملت معها أيضًا قلقًا هائلًا على طفليها، ليلى ذات الثلاث سنوات ومحمد ذي الخمس سنوات. كان ياسر، زوجها، أسيرًا خلف خطوط العدو، وأصبح مجرد ذكرى تتلاشى ببطء بين أفق الهجرة والقلق. هل هو حي أم استشهد؟ كان هذا السؤال يطاردها في كل لحظة، ويعيدها إلى أيام السعادة التي فقدتها، إلى ضحكاته التي كانت تملأ البيت أمانًا، وإلى حنانه الذي كان يدفئ قلبها.

 

لم يكن لدى خولة سوى ما تستطيع حمله، ولكن عندما كانت تواجه مرارة النزوح، كانت أكثر ما تحتاجه هو الأمل. استقبلها البرد القارس والظروف القاسية في خيمة بائسة لا تقيها من هجوم الرياح أو برودة الليل . لم تكن تمتلك سوى ملابس بالية، وكمية قليلة من الطعام لا تكفي لبضعة أيام. كانت تتلقى من أسرتها نصائح قاسية تطالبها بأن تسلم الأطفال إليهم، لأنهم يعتقدون أن لا أحد يمكنه الدفاع عنها في غياب ياسر.

 

في وسط تلك المعاناة، لم تكن خولة وحدها من يعاني. ولكن معاناتها كانت تحمل طابعًا خاصًا، فقد كانت الأم الوحيدة التي تقاوم من أجل حياة طفليها في خضم بحر من الألم والحزن. وبينما كانت تعتمد على رحمة الجيران الذين كانوا يشاركونها قطعة خبز أو كوب حليب، كان الجوع يلتهم طفلتها ليلى، فكان الحزن يلتهم قلبها. وفي تلك اللحظة، كان الانهيار وشيكًا، لكنه كان انهيارًا يعقبه عزيمة لا تعرف الاستسلام.

 

سمعت خولة عن "المشاريع الصغيرة التي تتيح للنساء العمل من بيوتهن"، فكان ذلك بمثابة بصيص نور في الظلام. دون تردد، سجلت في دورة تدريبية مهنية، وفي الوقت نفسه بدأت رحلة العلاج النفسي بعد أن كانت تعاني من أعراض اكتئابية وحزن شديد. كان الاهتمام الذي تلقته خلال جلسات الدعم النفسي بمثابة نقطة انطلاق جديدة. فقد شجعتها هذه الدورات على المشاركة في الأنشطة الجماعية، وأعاد إليها الأمل، ومن هنا بدأت رحلتها في عالم المعجنات، الذي أصبح هو الأمل والحياة نفسها.

 

دورة تصنيع المعجنات كانت تتطلب جهدًا كبيرًا، ولكن عزيمتها كانت أقوى من كل ذلك. كانت تستيقظ قبل الفجر، لتحضر نفسها وطفليها، ثم تذهب بهم معها إلى مكان التدريب. ومع انتهاء الدورة، بدأت في تصنيع المعجنات داخل خيمتها، ورغم صغر المشروع في البداية، إلا أنه كان يحمل أملًا لا متناهٍ. بمرور الوقت، بدأ الطلب يزداد، وانتشرت سمعة معجناتها بين الناس.

 

ومع زيادة أرباحها، تحسنت أوضاعها المعيشية، وانتقلت إلى مكان أفضل، حيث بدأت في تعليم أطفالها في أفضل المدارس. لم تكتفِ بذلك، بل قررت أن تكمل تعليمها، فالتحقت بالجامعة وأصبحت الآن على مشارف التخرج، لتبرهن للجميع أن الظروف مهما كانت صعبة، لا تستطيع أن تكسر إرادة إنسان عازم.

 

خولة، التي كانت في البداية أسيرة للألم والحزن، أصبحت اليوم مصدر إلهام لكل النساء. هي الصوت القوي الذي يمثل المرأة المكافحة التي لا تعرف الاستسلام. ورغم أنها لم تنسَ ياسر، زوجها، إلا أنها لم تركز على ألمها، بل على بناء مستقبل أفضل لها ولأطفالها. فقد آمنت أن الحياة مستمرة، وأن على الإنسان أن يتجاوز الصعاب، ويبحث في نفسه عن القوة التي تجعله يتغلب على كل التحديات.

 

أفنان السريحي